مصر في العالم الجديد‏(3)‏

مادام الحديث انتقل بنا الي دائرة تحرك مصر في العالم الجديد‏,‏ وذلك في سلسلة من اللقاءات تناولنا فيها معا تغيير العالم‏,‏ العالم الجديد بشكل متكرر ومتصل‏,‏ أتصور أنه قد يكون من اللائق أن نقف لحظة لنتساءل‏:‏ ماذا نعني بهذا الجديد الذي اصاب العالم ؟ ثم بالنسبة لأي مرحلة من التاريخ بالمعني الأوسع حدث ما يمكننا ان نعتبره مغايرا في الأعماق لنظام عالمي كان قائما بشكل مستقر قبل الزلزال الذي سبب الفجوة في الاعماق‏.‏

باختصار شديد يمكن ان نحدد بداية ما سماه المؤرخون العالم‏,‏ أو النظام العالمي هي علامات البداية التي عليها قسط وافر من الاتفاق‏,‏ اي بين‏1492‏ و‏1647‏ ـ أي سنة اكتشاف قارة امريكا في لحظة سقوط مملكة غرناطة في الاندلس من ناحية‏,‏ ومن ناحية اخري صلح وستفاليا الذي اقر فكرة منظومة المجتمعات القومية‏,‏ أي الأمم في اوروبا‏,‏ أي نهاية مرحلة العصور المظلمة التي اصابت القارة الأوروبية منذ نهاية امبراطورية روما حتي بداية عصر القوميات والنهضة‏.‏

بدأ التاريخ إذن‏,‏ حسب علم التاريخ الذي تعلمناه اي التاريخ الحديث‏,‏ تاريخ النظام العالمي كما ورثناه جيلا بعد جيل‏,‏ أي صعود دول اوروبا القومية الي مكانة المركزة والمبادرة التاريخية والسيطرة علي القارات المحيطة بموجة تلو الموجة من الحروب والاقتحام والاغتصاب والاحتلال والاستعمار التقليدي والامبريالية حتي مرحلة الهيمنة‏.‏

وقد اتخذت هذه الهيمنة شكل القطبية الثنائية بعد مذابح الحربين الأولي والثانية واقامة نظام عالمي أكدوا انه قمة التاريخ وذلك في معاهدة يالتا‏(1945):‏ عالم الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الذي حدد لنفسه شكل منظمة حلف شمال الاطلنطي من‏1947‏ الي اليوم‏,‏ في مقابل الاتحاد السوفيتي الاسبق الذي اضطر الي اقامة حلف وارسو للدول الاشتراكية الأوروبية عام‏1949‏ حتي تفككه بين‏1989‏ و‏1991.‏

وفي هذه اللحظة علي وجه التحديد تزاحم ادعياء الفكر والجيوسياسة في الغرب لإعلان نهاية التاريخ‏.‏ بدا العالم بنمطه المتكامل يجمع بين الديمقراطية البرلمانية الغربية وإقتصاد السوق الرأسمالية وما ترتب علي ذلك من تبويب للعالم بين عالم أول‏(‏ اي الغرب‏)‏ وعالم ثان‏(‏ اي الدول الاشتراكية الغربية سابقا‏),‏ وعالم ثالث يشمل نحو‏80%‏ من الانسانية في القارات الثلاث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية‏.‏

تغييب العالم
هكذا كانت الدنيا كما انهالت علينا في نهاية القرن العشرين‏:‏ ملايين البشر المتخلفين ـ حضاراتنا وثقافاتنا‏,‏ واممنا‏,‏ ودولنا‏,‏ ومجتمعاتنا‏,‏ وشعوبنا في سلة واحدة اطلقوا عليها القرية العالمية‏,‏ وفي هذا الجو الاحتفالي ظهرت مجموعة من المنظمات تنازع الأمم المتحدة صفتها التمثيلية ومكانتها المركزية‏,‏ كما هو الحال مع مجموعة الدول الصناعية السبع‏.‏


وقد سمحت لروسيا الجديدة علي مضض ان تنضم اليها منذ سنوات قلائل ثم مسرح أو مسرحية المنتدي الاقتصادي العالمي في دافوس‏,‏ الذي اضطرت كبري وسائل الإعلام في الغرب الي السخرية من يومياته التي نظمتها الرئاسة الصهيونية لكبار الأثرياء والنجوم‏(‏ وهو عندنا مؤتمر عالمي مازال ينتمي الي عالم أجواء الجديد في العالم‏.‏

هل يمكن إذن ان نحدد لحظة التغيير‏,‏ أي ظهور الجديد المغاير للنظام العالمي منذ القرن السادس عشر‏,‏ بيوم صعد زعيم الحزب الشيوعي الصيني‏,‏ الرئيس ماو تسي يوتونج الي منصة المدينة الامبراطورية المحرمة في بكين واعلن علي ملايين الصينيين المحتشدين في ميدان السلام الدائم يوم اول اكتوبر‏1959‏ إعلان جمهورية الصين الشعبية هو التاريخ الفيصل الفاتح لبداية تغيير العالم وصياغة عالم جديد؟‏.‏

كان اليوم فاصلا في التاريخ العالمي دون شك ولكن التساؤل تبادر الي اذهان الناس‏:‏

من أين هذا اليوم الفاتح؟ كيف استطاعت الصين ان تصحو من انحدار دام نحو اربعة قرون من الزمن؟ وطالما ان لا شئ يبدأ من فضاء فكان لابد من البحث المتأني‏.‏

وهو الذي تدرج بالناس والدنيا كما عرفناها الي ادراك ان هناك حدثا هائلا غير مسبوق في تاريخ الأمم زلزل اجيال الانحدار في الصين منذ القرن السادس عشر‏,‏ وهو الحدث الجليل الذي احتفلت به الصين شعبا وحزبا ودولة‏,‏ حول مطلع هذا العام‏,‏ ألا وهو المسيرة الطويلة التي فتحت طريق ثورة التحرير من اعماق الهزيمة الي النصر ثم دخول العاصمة وما تلاه من إعلان انتصار الثورة وتأسيس الدولة الجديدة‏.‏

في القاهرة ايام الحرب العالمية الثانية

المسيرة الطويلة؟ كيف دخلت اسطورتها الي اسماع المصريين؟ ثم‏:‏ لماذا تم تغييبها هي ايضا؟

صفحات من كتاب الذكريات‏,‏ يمتزج بتاريخ الحركة الوطنية في أثناء الحرب العالمية الثانية‏.‏

الحياة اليومية في مصرنا المحروسة في اثناء الحرب العالمية الثانية‏(1939‏ ـ‏1945)‏ اضافت الهموم والضغوط بشكل مثير‏.‏ اصبحت القاهرة مقرا لقياده قوات الشرق الاوسط التي بلغ قوامها‏650‏ الف رجل بما في ذلك ألوية المدرعات والمدفعية الثقيلة وأجنحة الطائرات من احدث طراز لتواجه حملة فيلق افريقيا الألماني بقيادة المارشال روميل الذي انطلق من شمال افريقيا مستهدفا محور النيل ومنه الي المشرق ثم شمالا ـ هكذا كان المخططـ الي جنوب الاتحاد السوفيتي لإتمام عملية الكماشات مع الجيوش الألمانية المقبلة من اوروبا الوسطي والشرقية‏,‏ اصبح تعداد جيش الاحتلال في القاهرة ـ وكان قوامه آنذاك نحو‏86.000‏ ـ جزءا يسيرا من قوات الشرق الاوسط حول مركزها في فندق ميناهاوس‏.‏


شباب الحركة الوطنية المصرية علي تنوع قطاعاته من الوفديين الي الشيوعيين‏,‏ من مصر الفتاة الي الحزب الوطني وكذا شباب الضباط وتكوينات شعبوية غير محددة‏,‏ كانت في طريق التكوين‏,‏ شباب مصر يبحث عن طريق الخلاص‏,‏ فهل يمكن استغلال اجواء الافكار المقبلة مع القوي العسكرية الجاثمة علي انفاس البلاد؟ ثم إيه حكاية تلك المؤسسة الغربية التي تكونت حول عام‏1944‏ بعد انتصار العلمين باسم برلمان القوات وقد ارسل فيه الجنود من جميع الوحدات مندوبيهم المنتخبين يمثلون الرأي العام في قوات الشرق الاوسط نحو ثلثي مليون‏,‏ ليعبروا عن مواقفهم واتجاهاتهم في مجتمع ما بعد الحرب في هذا البرلمان الخاص الذي كان ينعقد في احدي ساحات القيادة البريطانية في ضواحي القاهرة‏,‏

وهو البرلمان الذي شهدت فيه اغلبية كاسحة لأنصار حزب العمال وقد تم ذلك والحق يقال بفضل التعاون الوثيق بين تنظيم الجنود البريطانيين التابعين للحزب الشيوعي البريطاني من ناحية وشباب منظمات اليسار المصري من ناحية اخري بهدف الخلاص من سطوة حزب المحافظين علي اداة الحرب والاحتلال‏.‏

ومن بين الكتب الاشتراكية والتقدمية التي انهالت علي مصر في هذه السنوات الغريبة‏,‏ كانت منشورات دار جولانكز التابعة لجماعة الفابيين وهي النواة الفكرية التكوينية لحزب العمال البريطاني‏,‏ منذ مطلع القرن العشرين‏,‏ تحتل مكانة الصدارة‏,‏ وذات يوم‏,‏ جاءتنا الي مصر بفضل مكتبة الانجلو المصرية في شارع عماد الدين عدة كتب بالغة الأهمية مثلت رافدا مهما في تكوين الايديولوجية الاشتراكية في بداية الاربعينيات لدي صف من المثقفين في العاصمة وكذا الاسكندرية‏,‏ كتاب بغلافه الاصفر مازال ماثلا في ذاكرتي مؤلفه صحفي امريكي اسمه ادجار سنو‏,‏ والكتاب كان يحمل عنوانا مثيرا ألا وهو النجم الاحمر فوق الصين كان ثمنه جنيهين من مرتبي موظفا بقسم حسابات البنك الأهلي المصري آنذاك ثمانية جنيهات‏.‏

نجم أحمر يعني الاشتراكية ؟ فوق الصين ـ إيه حكاية الصين؟ باختصار شديد‏'‏ كان ادجار سنو شابا امريكيا ذهب إلي الصين حيث درس اللغة والتاريخ سبع سنوات‏,‏ ثم اصبح مراسلا لمجموعة من الصحف الامريكية شيكاجو تريبيون نيويورك سان ونيويورك هيرالد تريبيون وكذا لندن ديلي هيرالد‏,‏ كان مراسلا مع جيش المارشال شن يانج كي تشن وسمع ادجار عن جيش غريب اطلقوا عليه العصابات الحمر وكذا العفاريت الحمر الصغار طلب ان يزورهم وجاءه الاذن بذلك‏,‏ وكان اللقاء في قرية باوان حيث جاء اليه رجل علي حمار ومعه مساعدان وإذ به شوات لاي رفيق مسيرة ما وتسي تونج ورئيس وزراء الصين الشعبية رفيع المقام فيما بعد حتي وفاته دخل ادجار سنو وعاش شهورا ثم سنوات مع ضيوفه حتي مغارات يانان التي لجأت اليها فلول جيش الحزب الشيوعي الصيني اقل من عشرين الف رجل‏,‏ بعد رحلة قادته عبر الجبال والاهوال‏9‏ آلاف كيلو متر بعد محاصرته في جنوب شرق الصين حتي وصل عبر الجبال والثلوج في عالم بعيد بعيد عن العمران‏:‏ كانت هذه هي ملحمة المسيرة الطويلة‏.‏

نجم أحمر‏:‏ عالم جديد
ثم انطلق الجيش لتحرير الشعب بعد ان فقد نحو نصف قواته بفضل ضربات المارشال شيانج الغادرة‏,‏ وحارب الشهر تلو الشهر‏,‏ نحو سنة حتي بلغ بكين‏,‏ فكان يوم الانتصار وكذا يوم إعلان تأسيس جمهورية الصين الشعبية‏.‏

من هذه الملحمة بدأت المسيرة الطويلة الجديدة من اجل البناء والتنمية والصعود السلمي الي صف الدولة العظمي الجديدة في مطلع هذا القرن الجديد‏.‏

لقاؤنا إذن لابد ان يتصل في لقاء تال مع المسيرة الطويلةطالما نسعي الي ادراك لحظة تغيير العالم ومغزاها‏,‏ وكذا ابعادها‏,‏ علنا نفيد‏.‏

وبهذه المناسبة‏,‏ من المفيد ان نذكر ان كتاب النجم الأحمر فوق الصين لمؤلفه إدجار سنو تمت ترجمته الي العربية ونشر في مشروع الألف كتاب‏,‏ بحيث انه من الممكن بل من الواجب ان تصدر هيئتنا العامة للكتاب طبعة ثانية لشباب مصر‏,‏ ربما في مكتبة الاسرة

قال صاحبي‏:‏
أنت مستعجل يا أخي‏,‏ لماذا لا تتوقف لتشرح ابعاد رأيك‏..‏ نعم المسيرة الطويلة عمل اسطوري شاهق ولا شك‏.‏ ولكن كيف ولماذا كان له علامة لتغيير العالم وبداية صياغة عالم جديد في رأيك ؟ ماذا عن زلزال الحرب العالمية الثانية‏........‏